المجتمع العربي بين مشروع الأخونة و مشروع الإبراهيمية!!


 الكرم شيمة عربية أصيلة يكاد العرب ينفردون بها دون غيرهم من الشعوب؛ إذ من النادر إيجاد فضيلة العطاء و التنافس فيها إلا في المجتمع العربي... حتى بات الكرم، سيكولوجيا، جزءا مكينا من شخصية العربي، في ثقافته و قيمه و مفاخره ... و تميز العرب البدو أكثر من عرب المدن و الحواضر بهذه القيمة الإنسانية الرفيعة ؛ فتباهوا بها في أشعارهم التي مثلت سجل مآثرهم الخالدة ...و تفننوا في التنافس في قيم السخاء و الجود. و كان في العرب الجاهلية من أصبح مضربا للأمثال عبر التاريخ في صنائع المعروف و فضائل المروءة ... من هذه النماذج عبد الله بن جدعان... و حاتم الطائي و غلام طيء... 

● و المجتمع الموريتاني من المجتمعات العربية الأوفر نصيبا في الكرم و التمسك بتقاليد العرب في قيم التنافس على السبق بالكرم و التوسع في عناوينه... و إذن لا غرو إن ظهرت فضيلة السخاء بين الموريتانيين بأوجهه التليدة و أساليبه الحديثة. و في المجتمع الموريتاني كذلك قبائل و عوائل اشتهرت بالكرم في أوقات الشدة و ظروف الفاقة و المحن... حتى اقترن الكرم عندها بالعبادة.و الكرم لا يقتصر على بذل المال فحسب؛ و إنما يشمل بذل الجاه و التضحية بالوقت و الإيثار و تقديم الطعام و طيبة السلوك و سمو الأخلاق... في سبيل تقديم المساعدة أو رفع الظلم... و لاستخلاص الحق أو المواساة للتخفيف من قسوة الحوادث...

● غير أن الكرم ، ضمن قيم العروبة التي أقرها الإسلام، يعني البذل بأوجهه المختلفة دون من و لا انتظار مقابل من المستفيد بالأعطيات و الأيادي. و الصدقات وجه من وجوه الكرم بل من أعظمه في الإسلام؛ لأنها سخاء خالص لوجه الله و طلبا لمرضاته؛ ذلك أن الكرم في ما لا يرضي الله يعد لؤما إزاء فضله و أنعمه. و من هذا الامتياز، كان المتصدقون المسلمون الأوائل يعتبرون الصدقات و البذل غاية في ذاتهما و استثمارا أخرويا مؤجلا؛ بخلاف المتصدقين المتأخرين ، من مجتمعنا، الذين يرون في صدقاتهم و أوجه سخائهم وسيلة لغايات دنيوية عاجلة ، هي الاستمتاع باللذة الحسية لانتشار شهرتهم السياسية أو ذيوع صيتهم الأسري... أو ما يسمى ، في الإسلام، بالرياء ، و هو صفة مذمومة، و قليلة الفائدة لاقترانها ، عادة، بالمن العلني أو الخفي، و عمل خاسر في ميزان الحسنات الأخروية ... فالكرم و التصدق كوسيلة يجتمع عليهما الأولون و المتأخرون، لكن الغايات مختلفة بينهم. فالأولون يتعلقون بالخلود تعلقا نبيلا، و المتأخرون يتعلقون به تعلقا تافها و عابرا... !

و الناس، منذ الأزل، فطروا، بحكم ضعفهم الواقعي، على نشدان مساعدة بعضهم لبعض لأنهم دائما في حاجة ماسة للعون، في هذه الناحية أو تلك من نواحي الحياة... إذ بدون هذا التعاون يموت الإنسان أو يجن بالعزلة... و في كلا الحالين تتعطل رسالته العمرانية في الأرض.

إن الجديد في أمر الكرم و الصدقات، في مجتمعنا، أن رأس المال الهائل المتحرك بين أيدي " المتصدقين" و " الكرماء" و يتخوضون فيه ظاهرا لم يعد بحجم ثراء الأفراد ؛ و إنما هؤلاء و إن تستروا بالصلاح كأفراد أو بالنبالة التاريخية كأسر أو بالخيرية كجمعيات أو منظمات ، ما هم على الحقيقة، وعوا ذلك أم لم يعوه، إلا أدوات لجهات و أجهزة استخبارية دولية تتصارع خلف بذل المال تحت عنوان "أعمال الإغاثة" أو "أعطيات الكرم". و إذا كان الكرماء و المتصدقون الأولون تحروا في جودهم عزلة المكان و وحشة الزمان ، حتى لا تعلم اليسرى ما تصدقت به اليمنى ، و العكس بالعكس، خشية الرياء، فإن "كرماء" اليوم و "المتصدقين" يجتهدون بكل عناية ليكون العالم الافتراضي و عدسات التصوير مسرحا لنشاطهم... ليس فقط لتوثيق " نبلهم" و" صدقاتهم" أو " لإنقاذ" أنفسهم من نسيان اللؤماء؛ بل لأنهم مجبرون على ذلك ، كونهم في مكان و زمان التجريب و الامتحان المستمر من قبل المشغلين لهم- المانحين للمال عن بعد!  

من هنا، أصل التواري الملحوظ لأصحاب الكرم و التصدق "الكلاسيكيين"، الذين طمرهم الشعور بالتفاهة و الضآلة عندما أصبحوا موضع مقارنة ضمنية- مفروضة عليهم من طرف مجتمع يقف عاريا، دون خجل، من قيمه الأصيلة- مع طوفان مالي وافد من خلف الحدود! لقد تحطم، منذ تدفق مال الإخوان المسلمين، التناغم الأصيل بين المجتمع العربي و قيمه التالدة في الكرم و الإحسان؛ إذ بات المجتمع " بازار سلع" أو " سوق برص و صرافات عملات" يلتهم فيها القوي الضعيف، كما يبتلع الحوت الكبير السمك الصغير! 

و أضحى الشعب العربي مجرد زبائن يبيع لهم المتعاركون بالأموال "الفاتحة" وهْمَ "الخيرية" و "نبل الكرم" ... و يشترون منهم مقابل هذا الوهم و السذاجة واقع التبعية لخياراتهم!

إنه يجب، في رأينا الذي سيغضب هؤلاء و لا يرضي أولئك، فهم هذا الصراع المالي الذي يلفه الغموض بوصفه صراع تنافس بين "هامان" الإبراهيمية و" قارون" الأخونة على السيطرة على مجتمع مدمر أخلاقيا و ساقط نخبويا و سياسيا، في حمأة الصراع بين "قوى تسليع الدين "و" قوى تسطيح العقل" في سياق تطور، مميت، لاستثمار الرساميل الدينية لصالح المشاريع السياسية، منها ما ارتبط منذ عقود بأخونة المجتمع، و منها ما نهض لخدمة خلطة الإبراهيمية : الأخونة تستخدم المال لتطويع النخب؛ فتوجهت بندائها الإديولوجي الممول إلى البنية الفوقية للمجتمع كالنقابات الطلابية و الأندية الشبابية و الثقافية... و المحاظر... و قد استوعب مشروعها جمهورا كبيرا من هؤلاء دون أن يكونوا بالضرورة معجبين بإديولوجية الإخوان أو بتطبيقاتهم السياسية بل بالمصالح التي يمثلها التحيز لمواقف و خيارات الإخوان. و أما مشروع الإبرهيمية الناشئ فانتهج تقنية اقتحام أبواب المجتمع القاعدي بمختلف أنساقه التقليدية بأعطيات الكرم( أعيان الطبقات الأرستوقراطية، تاريخيا، مثل أهل القلم و أهل السر و حملة المدفع، و أعيان الشرائح الدنيا في السلم الاجتماعي تاريخيا، فضلا عن المجموعات الطفيلية التي طفت على السطح مع بذخ الحرية و انفلات المجال السمعي- البصري، مثل المدونين، و المتشبهين بالنساء و المتشبهات بالرجال... و من سعى سعيهم من مكونات المجتمع. 

أما ما نراه من ضجيج و شجار في الإعلام، في هذا القطر العربي أو ذاك، فمجرد صلصلة تصادم أواني...

إن من نافلة القول إن جماعة الإخوان المسلمين حركة سياسية متمرسة راكمت خبرات كبيرة في مجال جمع المال و توظيفه في سبيل مشروع انقلابها على المجتمع العربي، القائم بنماذجه و تقاليده و معتقداته... و إذن لا بد لها من تحطيم كل ذلك لتتمكن الجماعة من إعادة صياغة المجتمع على نموذجها ، بدءا من رؤيتها للدين... وصولا لذوقها في الجمال و الترفيه... و ليس من وسيلة أمثل و لا أخفى، لتغيير قناعات الناس، من المال و قد نجحت في ذلك بدرجة معينة خلال العقدين الماضيين على الأقل، عندما أصبح المجتمع يطلق صفة العلماء على عموم المنتسبين للاخوان و أصبحت معارضة نموذجهم بمثابة معارضة للإسلام نفسه حتى إن العوام و أنصاف المتعلمين يختبرون شرعية مواقفهم السياسية و عدم شرعيتها باستحسان أو استهجان مشايخ الإخوان المسلمين لها ... 

لكن هذا المال ، رغم دوره في توسع الحركة ، أفقيا، ظل النقطة الأكثر حساسية بالنسبة لقادة الجماعة ، خصوصا عندما يرتفع صوت هنا أو هناك يطالب بالتحقيق في مصادره و أوجه صرفه... أو حينما يلوح نظام من الأنظمة بالتحقيق في مصادر أموال الجماع و و عناوين صرفها. فكان المال بقدرما مثل عامل قوة الجماعة ، انتخابيا و تعبويا، فإنه شكل موقع مقتلها سياسيا، في أكثر من قطر عربي. و إذ تظهر جهة أخرى ، توازي في قوتها المالية القوة المالية للإخوان و تتجه لكسب قطاعات واسعة من أعماق المجتمع و جذوره، فإن من الطبيعي أن تستشعر الجماعة، عبر أذرعها الإعلامية و الاستخبارية، خطرا كبيرا و داهما و مميتا لمستقبلها و على قدرتها على الحفاظ على مكتسباتها السابقة بالمال... لأن الجماعة تدرك يقينا أن نشاطا ماليا بحجم أو يتفوق على نشاطها، هي، لا بد أن يكون نموذجا مدروسا و متكاملا يستهدف تجريفها بأدواتها و بالضد من مشروعها. إنها الإبراهيمية ، متخفية في كرم حاتم و ابن جدعان، لمواجهة الأخونة ،أسفل المجتمع، لجز جذورها التي ربت بالمال خلال ثلاثة عقود ، خاصة في أقطار المغرب العربي. إنهم خصوم، هناك في الخليج العربي، يحطمون بعضهم بعضا بالمال في ساحة المغرب العربي و يتانزعون ( السيادة) على مجتمعاته كما لو كانوا غير معنيين بالقانون و المساءلة عن مصدر هذه الأموال و عن اوجه إنفاقها، بهذا الشكل أو ذاك الشكل! ... و هنا سر الغرابة و مكمن الخطر ؛ فحيوية المال الغزير المنفصل عن قواعد المروءة نفوذ القوانين المعمول بها فضلا عن "وجاهة" من بأيديهم المال من شأنه أن يحشر المجتمع في صدفة مغلقة ، يحدق في كوارثه و لا يستطيع ردة فعل ، كما لو أنه مشلول !

إن جماعة الإخوان تعاظمت في أموالها على الدولة ، في الاستحقاقات الانتخابية و التعبئة السياسية في مرات عديدة، فإذا بها تواجه قوة مالية من جنسها، بعناوين عائلية، تنازعها سوقها و تشتغل على إطفاء بريقها الدعائي في المجتمع الأهلي، مستودع الجهل و الاحتياجات الإنسانية الأولية، حيث رتعت فيه الجماعة بجمعياتها الخيرية لسنوات دون منافس... نعم منافسة بعناوين عائلية أكثر مقبولية تاريخيا ، من الجماعة، و أرسخ قدما في البذل ... بمعنى أن مصالح العائلة الكريمة تتدعم في مشروعها ببعث حقائق اجتماعية و تاريخية تسكن وجدان المجتمع و تعشش سيكولوجيا في ذهنيات أفراده، بينما كانت جماعة الإخوان تتدعم في مشروعها بهدم هذه الحقائق التاريخية نفسها!

نختم بالقول إن من الأكيد أن ما يدور من أموال، مجهولة المصدر و ممنوع فيها التحقيق على مستوى المشروعين، الإخواني و الإبراهيمي، هو صراع، واجهته التنافس في المال، بين مشروع الأخونة المدعوم من دولة قطر و مشروع الإبراهيمية المسنود من دولة الإمارات، في ظل افتقار المجتمع العربي، في هذه الحقبة من تاريخه، لسلطة ضمير جمعي و موت ضمير أفراده بفعل شعورهم بالعجز و العوز ... فالشعب في ظل هذا الصراع المحموم فريسة! 

● لقد كان لمشروع الأخونة السبق في تحويل العرب، بالمال السياسي، إلى سوق " نخاسة سياسية " مفتوحة يحصل عليهم كأشياء بالشراء بريع المنظمات الخيرية و جمع التبرعات و بناء المساجد و الأدوية و ... و انضاف لهذه السوق لاعب جديد: أموال الإبراهيمية التي تصارع لكسر احتكار الأخونة للسوق و تحطيم كل ما يقف عقبة في وجهها، خاصة طرد المشروع الإخواني، المقبول سياسيا نسبيا، من عمق المجتمع... و هذا الصراع مرتبط بالتطورات الدولية و الحروب الجارية و ظروفها المتغيرة نحو نظام دولي جديد ... و لا مستقبل لمشروع الأخونة و مشروع الإبراهيمية معا؛ و إنما لا بد من نفي أحدهما للآخر ... ما لم تأت الإشارة ، ضمن المتغيرات العالمية، إليهما بالمصالحة و التكامل، خصوصا أن كلا المشروعين يقترنان، خلف الشعارات، في تدمير أي إمكانية مستقبلية للمشروع القومي العربي، الذي يرقد بعد الغزو الأمريكي للعراق في غرفة الإنعاش. فالمشروع الإخواني اعتمد ، في " ربيعه"، التدمير الداخلي العنيف لكل ما كان قائما، ماديا و معنويا، في الأقطار العربية التي استهدفها. و المشروع الإبراهيمي الناهض يستهدف تذويب الشخصية العربية في محلول تركيبة دينية في خدمة المشروع الصهيو- أمريكي. و من هنا الخشية الكبرى أن يكون التكامل، إذا حصل ،بتصالح هامان و قارون، تقويما من قبل اللوبي الصهيو- أمريكي للفشل الذريع لجهود التطبيع مع الحكومات و من أجل تطبيع جذري و شامل: المشروع الأول على المسار السياسي و النخبوي( التطبيع الرأسي) و الثاني على المسار القاعدي( التطبيع المجتمعي و الديني)... و ينبوع قوة المشروعين تدفق التوزيعات المالية مجهولة المصدر ،و المحصنة ضد التحقيق، التي يعير بها مشروع الأخونة غريمه الإبراهمي، و قد كان الأول الأسبق لهذا العيب و تأسس عليه و توسع بفضله، في الساحة العربية كلها، على كل العناوين السياسية، القومية و اليسارية و الليبرالية ...

بقلم: محمد الكوري ولد العربي

أحدث أقدم

نموذج الاتصال